Hukum Niqab Fatwa Qaradhawi (4)
Hukum niqab atau menutup aurat seluruh tubuh termasuk wajah dan telapak tangan bagi wanita Fatwa qaradawi (4)
Hukum Niqab Fatwa Qaradhawi (4)
- ضرورة التعامل توجب معرفة الشخصية:4
إن ضرورة تعامل المرأة مع الناس في أمور معاشها يوجب أن تكون شخصيتها معروفة للمتعاملين معها، بائعة أو مشترية، أو موكلة، أو وكيلة، أو شاهدة أو مشهودًا لها أو عليها، ومن ثم نجد أن الفقهاء مُجْمِعون على أن المرأة أن تكشف عن وجهها إذا مثلت أمام القضاء، حتى يتعرف القاضي والشهود والخصوم على شخصيتها. ولا يمكن التعرف على شخصيتها والحكم بأنها فلانة بنت فلان، ما لم يكن وجهها معروفًا للناس من قبل، وإلا فإن كشف وجهها في مجلس القضاء لا يفيد شيئًا.
أدلة القائلين بوجوب النقاب:
تلك هي أبرز أدلة الجمهور، فما أدلة من خالفهم، وهم قلة؟.
الحق أني لم أجد للقائلين بوجوب لبس النقاب، ووجوب تغطية الوجه واليدين دليلاً شرعيًا صحيح الثبوت، صريح الدلالة، سالمًا من المعارضة، بحيث ينشرح له الصدر ويطمئن به القلب.
وكل ما معهم متشابهات من النصوص تردها المحكمات وتعارضها الأدلة الواضحات.
وأذكر هنا أقوى ما استدلوا به، وأردُّ عليه:
آية: "يدنين عليهن من جلابيبهن":
أ- من ذلك: ما جاء عن بعض المفسرين في قوله تعالى في "آية الجلباب" في سورة الأحزاب ، وهي قوله تعالى" (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين). (الأحزاب: 59).
فقد روي عن عدد من مفسري السلف تفسير إدناء الجلابيب عليهن، أنهن يسترن بها جميع وجوههن، بحيث لا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة يبصرن بها.
وممن روي عنه ذلك ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم، ولكن ليس هناك اتفاق على معنى" الجلباب" ولا على معنى "الإدناء" في الآية.
والعجب أن يروى هنا عن ابن عباس، ما روي عنه خلافه في تفسير آية سورة النور: (إلا ما ظهر منها)!.
وأعجب منه أن يروي بعض المفسرين هذا وذاك، ويختاروا في سورة الأحزاب ما رجحوا عكسه في سورة النور!.
وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم في حديث أم عطية في صلاة العيد: إحدانا لا يكون لها جلباب.. إلخ. قال: قال النضر بن شميل: الجلباب ثوب أقصر - وأعرض - من الخمار، وهي المقنعة تغطي به المرأة رأسها، وقيل: هو ثوب واسع دون الرداء تغطي به صدرها وظهرها، وقيل: هو كالملاءة والملحفة. وقيل: هو الإزار، وقيل: الخمار. [22]
وعلى كل حال، فإن قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن) لا يستلزم ستر الوجه لغة ولا عرفًا، ولم يرد باستلزامه ذلك دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه. كما قال صاحب "أضواء البيان" رحمه الله.
وبهذا سقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
تفسير ابن مسعود لـ "ما ظهر منها"
ب - ما جاء عن ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) أن ما ظهر منها هو الرداء والثياب الظاهرة.
وهذا التفسير يعارضه ما صح عن غيره من الصحابة: ابن عباس وابن عمر وعائشة وأنس رضي الله عنهم، وعن غيرهم من التابعين: أنه الكحل والخاتم، أو مواضعهما من الوجه والكفين، وقد ذكر ابن حزم أن ثبوت ذلك عن الصحابة في غاية الصحة.
ويؤيد هذا التفسير ما ذكره العلامة أحمد بن أحمد الشنقيطي في (مواهب الجليل من أدلة خليل) قال: (من يتشبث بتفسير ابن مسعود: (إلا ما ظهر منها) يعني الملاءة - يجاب بأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وأنه فسر زينة المرأة بالحلي، قال تعالى: (ولا يضرن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) [23] فتعين حمل زينة المرأة على حليها. [24]
يؤكد ذلك ما ذكرناه من قبل: أن الاستثناء في الآية يفهم منه قصد الرخصة والتيسير، وظهور الثياب الخارجية كالعباءة والملاءة ونحوهما أمر اضطراري لا رخصة فيه ولا تيسير.
آية: "فاسألوهن من وراء حجاب"
ج - ما ذكره صاحب أضواء البيان من الاستدلال بقوله تعالى في نساء النبي: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن). (الأحزاب: 53).
فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) قرينة واضحة على إرادة الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين أن غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن.
ولكن المتأمل في الآية وسياقها، يجد أن "الأطهرية" المذكورة في التعليل ليست من الريبة المحتملة من هؤلاء وأولئك، فإن هذا النوع من الريبة بعيد عن هذا المقام. ولا يتصور من أمهات المؤمنين، ولا ممن يدخل عليهن من الصحابة دخول هذا اللون من الريبة على قلوبهم وقلوبهن، إنما الأطهرية هنا من مجرد التفكير في الزواج الحلال الذي قد يخطر ببال أحد الطرفين، بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما استدلال بعضهم بنفس قوله تعالى: (فاسألوهن من وراء حجاب) فلا وجه له لأنه خاص بنساء النبي كما هو واضح، وقول بعضهم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - لا يرد هنا؛ إذ اللفظ في الآية ليس عامًا. وقياس بعضهم سائر النساء على نساء النبي مردود، لأنه قياس مع الفارق، فإن عليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن، ولهذا قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء. (الأحزاب: 32
حديث: "لا تنتقب المحرمة":
ما رواه أحمد والبخاري عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين" مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللواتي لم يحرمن.
ونحن لا نعارض أن يكون بعض النساء في غير حالة الإحرام، يلبسن النقاب والقفازين اختيارًا منهن، ولكن أين في هذا الدليل على أن هذا كان واجبًا؟؟ بل لو استدل بهذا على العكس لكان معقولاً، فإن محظورات الإحرام أشياء كانت في الأصل مباحة، مثل لبس المخيط والطيب والصيد ونحوها، وليس منها شيء كان واجبًا ثم صار بالإحرام محظورًا.
ولهذا استدل كثير من الفقهاء - كما ذكرنا من قبل - بهذا الحديث نفسه: أن الوجه واليدين ليسا عورة، وإلا لما أوجب كشفهما.
حديث عائشة في سدل الحجاب على وجهها في الحج:
هـ - ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي عن عائشة قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه".
والحديث لا حجة فيه لوجوه:
1ـ أن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وفيه مقال. ولا يحتج في الأحكام بضعيف.
2ـ أن هذا الفعل من عائشة رضي الله عنها لا يدل على والوجوب، فإن فعل الرسول نفسه لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره؟.
3ـ ما عرف في الأصول: أن وقائع الأحوال، إذا تطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، فسقط بها الاستدلال.
والاحتمال يتطرق هنا بأن يكون ذلك حكمًا خاصًا بأمهات المؤمنين من جملة أحكام خاصة بهن، كحرمة نكاحهن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما إلى ذلك. [25]
حديث: "المرأة عورة":
وـ ما رواه الترمذي مرفوعًا: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان" قال الترمذي: حسن صحيح [26]. وأخذ منه بعض الشافعية والحنابلة: أن المرأة كلها عورة ولم يستثنوا منها وجهًا ولا كفًا ولا قدمًا.
والصحيح أن الحديث لا يفيد هذه "الكلية" التي ذكروها، بل يدل على أن الأصل في المرأة هو التصون والستر، لا التكشف والابتذال، ويكفي لإثبات هذا أن يكون معظم بدنها عورة، ولو أخذ الحديث على ظاهره ما جاز كشف شيء منها في الصلاة، ولا في الحج، وهو خلاف الثابت بيقين.
وكيف يتصور أن يكون الوجه والكفان عورة، مع الاتفاق على كشفهما في الصلاة ووجوب كشفهما في الإحرام؟ وهل يعقل أن يأتي الشرع بتجويز كشف العورة في الصلاة، ووجوب كشفها في الإحرام؟.
على أن الحديث ما تفرد به الترمذي عن سائر أصحاب السنن ، ولم يصفه بالصحة بل اكتفى بوصفه بالحسن والغرابة ، وذلك لأن بعض رواته ليسوا في الدرجة العليا من القبول والتوثيق ، بل لا يخلو من كلام في حفظهم [27].
سد الذريعة
زـ وهناك دليل يلجأ إليه دعاة النقاب إذا لم يجدوا الأدلة المحكمة من النصوص، ذلكم هو سد الذريعة . فهذا هو السلاح الذي يشهر إذا فُلَّتْ كل الأسلحة الأخرى.
وسد الذريعة يقصد به منع شيء مباح، خشية أن يوصل إلى الحرام، وهو أمر اختلف فيه الفقهاء ما بين مانع ومجوز، وموسع ومضيق، وأقام ابن القيم في "إعلام الموقعين" تسعة وتسعين دليلاً على مشروعيته.
ولكن من المقرر لدى المحققين من علماء الفقه والأصول: أن المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها، فكما أن المبالغة في فتح الذرائع قد تأتي بمفاسد كثيرة تضر الناس في دينهم ودنياهم، فإن المبالغة في سدها قد تضيع على الناس مصالح كثيرة أيضًا في معاشهم ومعادهم.
وإذا فتح الشارع شيئًا بنصوصه وقواعده، فلا ينبغي لنا أن نسده بآرائنا وتخوفاتنا فنحل بذلك ما حرم الله، أو نشرع ما لم يأذن به الله.
وقد تشدد المسلمون في العصور الماضية تحت عنوان "سد الذريعة إلى الفتنة" فمنعوا المرأة من الذهاب إلى المسجد، وحرموها بذلك خيرًا كثيرًا، ولم يستطع أبواها ولا زوجها أن يعوضها ما يمنحها المسجد من علم ينفعها أو عظة تردعها، وكانت النتيجة أن كان كثير من النساء المسلمات يعشن ويمتن، ولم يركعن لله ركعة واحدة!.
هذا مع أن الحديث الصحيح الصريح يقول: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"! ، "وإذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن" ، "لا تمنعوا النساء النساء من الخروج إلى المساجد بالليل" [28].
وفي وقت من الأوقات دارت معارك جدلية بين بعض المسلمين وبعض حول جواز تعلم المرأة، وذهابها إلى المدارس والجامعات. وكانت حجة المانعين سد الذريعة، فالمرأة المتعلمة أقدر على المغازلة والمشاغلة بالمكاتبة والمراسلة، إلخ، ثم انتهت المعركة بإقرار الجميع بأن تتعلم المرأة كل علم ينفعها، وينفع أسرتها ومجتمعاتها، من علوم الدين أو الدنيا، وأصبح هذا أمرًا سائدًا في جميع بلاد المسلمين، من غير نكير من أحد منهم، إلا ما كان من خروج على آداب الإسلام وأحكامه.
ويكفينا الأحكام والآداب التي قررها الشرع، لتسد الذرائع إلى الفساد والفتن، من فرض اللباس الشرعي، ومنع التبرج، وتحريم الخلوة، وإيجاب الجد والوقار في الكلام والمشي والحركة. مع وجوب غض البصر من المؤمنين والمؤمنات، وفي هذا ما يغنينا عن التفكير في موانع أخرى من عند أنفسنا.
عرف بعض الأقطار الإسلامية بتغطية وجوه النساء:
ح - ومما يستدل به هنا كذلك العرف العام الذي جرى عليه المسلمون عدة قرون، بستر وجوه النساء بالبراقع والنُّقُب وغيرها.
وقد قال بعض الفقهاء:
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار.
وقد نقل النووي وغيره عن إمام الحرمين - في استدلاله على عدم جواز نظر المرأة إلى الرجل - اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات.
ونرد على هذه الدعوى بجملة أمور:
1ـ أن هذا العرف مخالف للعرف الذي ساد في عصر النبوة، وعصر الصحابة وخير القرون، وهم الذين يقتدي بهم فيهتدي.
2ـ أنه لم يكن عرفًا عامًا، بل كان في بعض البلاد دون بعض، وفي المدن دون القرى والريف، كما هو معلوم.
3ـ أن فعل المعصوم وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدل على الوجوب، بل على الجواز والمشروعية فقط، كما هو مقرر في الأصول، فكيف بفعل غيره؟.
ومن هنا لا يدل هذا العرف حتى لو سلمنا أنه عام على أكثر من أنهم استحسنوا ذلك، احتياطًا منهم، ولا يدل على أنهم أوجبوه دينًا.
4ـ أن هذا العرف يخالفه عرف حادث الآن، دعت إليه الحاجة، وأوجبته ظروف العصر، واقتضاه التطور في شئون الحياة ونظم المجتمع، وتغير حال المرأة من الجهل إلى العلم، ومن الهمود إلى الحركة، ومن القعود في البيت إلى العمل في ميادين شتى.وما بني من الأحكام على العرف في مكان ما، وزمان ما يتغير بتغيره.
شبهة أخيرة "فساد العصر:
وأخيرًا نعرض هنا لشبهة ذكرها بعض المتدينين الذين يميلون إلى التضييق على المرأة.
وخلاصتها: أننا نسلم بالأدلة التي أوردتموها بمشروعية كشف المرأة لوجهها كما نسلم بأن المرأة في العصر الأول عصر النبوة والراشدين كانت غير منقبة إلا في أحوال قليلة.
ولكن يجب أن نعلم أن ذلك العصر كان عصرًا مثاليًا، وفيه من النقاء الخلقي، والارتقاء الروحي، ما يؤمن معه أن تسفر المرأة عن وجهها، دون أن يؤذيها أحد. بخلاف عصرنا الذي انتشر فيه الفساد، وعم الانحلال، وأصبحت الفتنة تلاحق الناس في كل مكان فليس أولى من تغطية المرأة وجهها، حتى لا تفترسها الذئاب الجائعة التي تتربص بها في كل طريق.
وردي على هذه الشبهة بأمور:
أولاً: أن العصر الأول وإن كان عصرًا مثاليًا حقًا، ولم تر البشرية مثله في النقاء والارتقاء، لم يكن إلا عصر بشر مهما كانوا، ففيهم ضعف البشر، وأهواء البشر، وأخطاء البشر، ولهذا كان فيهم من زنى، ومن أقيم عليه الحد، ومن ارتكب ما دون الزنى، وكان فيه الفُسَّاق والمُجَّان الذين يؤذون النساء بسلوكهم المنحرف، وقد نزلت آية سورة الأحزاب التي تأمر المؤمنات بإدناء الجلابيب عليهن، حتى يعرفن بأنهن حرائر عفيفات فلا يؤذين: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).
وقد نزلت آيات في سورة الأحزاب تهدد هؤلاء الفسقة والماجنين إذا لم يرتدعوا عن تصرفاتهم الشائنة، فقال تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قيلاً. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً). (الأحزاب: 60، 61).
ثانيًا: أن أدلة الشريعة - إذا ثبت صحتها وصراحتها - لها صفة العموم والخلود، فليست هي أدلة لعصر أو عصرين، ثم يتوقف الاستدلال بها. ولو صح هذا لكانت الشريعة مؤقتة لا دائمة، وهذا ينافي أنها الشريعة الخاتمة.
ثالثا: أننا لو فتحنا هذا الباب، لنسخنا الشريعة بآرائنا، فالمشددون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ميسرة بدعوى الورع والاحتياط، والمتسيبون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ضابطة، بدعوى مواكبة التطور، ونحوها.
والصواب أن الشريعة حاكمة لا محكومة، ومتبوعة لا تابعة، ويجب أن نخضع نحن لحكم الشريعة، لا أن تخضع الشريعة لحكمنا: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن). (المؤمنون: 71).
اعتبارات مرجحة لقول الجمهور:
أعتقد أن الأمر قد اتضح بعد ما ذكرنا أدلة الفريقين، وتبين لنا أن رأي الجمهور أرجح دليلاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً.
ولكني أضيف هنا اعتبارات ترجيحية أخرى، تزيد رأي الجمهور قوة، وتريح ضمير كل مسلمة ملتزمة تأخذ به بلا حرج إن شاء الله.
لا تكليف ولا تحريم إلا بنص صحيح صريح
أولاً: إن الأصل براءة الذمم من التكاليف، ولا تكليف إلا بنص ملزم، لذا كان موضوع الإيجاب والتحريم في الدين مما يجب أن يشدد فيه، ولا يتساهل في شأنه، حتى لا نلزم الناس بما لم يلزمهم الله به، أو نحرم عليهم ما أحل الله لهم، أو نحل لهم ما حرم الله عليهم، أو نشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى.
ولهذا كان أئمة السلف يتورعون من إطلاق كلمة حرام إلا فيما علم تحريمه جزمًا كما نقل ذلك الإمام ابن تيمية، وذكرته في كتابي "الحلال والحرام في الإسلام".
والأصل في الأشياء والتصرفات العادية هو الإباحة، فما لم يوجد نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة على التحريم، يبقى الأمر على أصل الإباحة، ولا يطالب المبيح بدليل، لأن ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته، إنما المُطالب بالدليل هو المحرم.
وفي موضوع كشف الوجه والكفين لا أرى نصًا صحيحًا صريحًا يدل على تحريم ذلك، ولو أراد الله تعالى أن يحرمه لحرمه بنص بين يقطع كل ريب، وقد قال سبحانه: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) (الأنعام: 119)، ولم نجد هذا فيما فصله لنا جَلَّ شأنه، فليس لنا أن نشدد فيما يسر الله فيه، حتى لا يقال لنا ما قيل لقوم حرموا الحلال في المطعومات: (قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون). (يونس: 59).
- ضرورة التعامل توجب معرفة الشخصية:4
إن ضرورة تعامل المرأة مع الناس في أمور معاشها يوجب أن تكون شخصيتها معروفة للمتعاملين معها، بائعة أو مشترية، أو موكلة، أو وكيلة، أو شاهدة أو مشهودًا لها أو عليها، ومن ثم نجد أن الفقهاء مُجْمِعون على أن المرأة أن تكشف عن وجهها إذا مثلت أمام القضاء، حتى يتعرف القاضي والشهود والخصوم على شخصيتها. ولا يمكن التعرف على شخصيتها والحكم بأنها فلانة بنت فلان، ما لم يكن وجهها معروفًا للناس من قبل، وإلا فإن كشف وجهها في مجلس القضاء لا يفيد شيئًا.
أدلة القائلين بوجوب النقاب:
تلك هي أبرز أدلة الجمهور، فما أدلة من خالفهم، وهم قلة؟.
الحق أني لم أجد للقائلين بوجوب لبس النقاب، ووجوب تغطية الوجه واليدين دليلاً شرعيًا صحيح الثبوت، صريح الدلالة، سالمًا من المعارضة، بحيث ينشرح له الصدر ويطمئن به القلب.
وكل ما معهم متشابهات من النصوص تردها المحكمات وتعارضها الأدلة الواضحات.
وأذكر هنا أقوى ما استدلوا به، وأردُّ عليه:
آية: "يدنين عليهن من جلابيبهن":
أ- من ذلك: ما جاء عن بعض المفسرين في قوله تعالى في "آية الجلباب" في سورة الأحزاب ، وهي قوله تعالى" (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين). (الأحزاب: 59).
فقد روي عن عدد من مفسري السلف تفسير إدناء الجلابيب عليهن، أنهن يسترن بها جميع وجوههن، بحيث لا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة يبصرن بها.
وممن روي عنه ذلك ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم، ولكن ليس هناك اتفاق على معنى" الجلباب" ولا على معنى "الإدناء" في الآية.
والعجب أن يروى هنا عن ابن عباس، ما روي عنه خلافه في تفسير آية سورة النور: (إلا ما ظهر منها)!.
وأعجب منه أن يروي بعض المفسرين هذا وذاك، ويختاروا في سورة الأحزاب ما رجحوا عكسه في سورة النور!.
وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم في حديث أم عطية في صلاة العيد: إحدانا لا يكون لها جلباب.. إلخ. قال: قال النضر بن شميل: الجلباب ثوب أقصر - وأعرض - من الخمار، وهي المقنعة تغطي به المرأة رأسها، وقيل: هو ثوب واسع دون الرداء تغطي به صدرها وظهرها، وقيل: هو كالملاءة والملحفة. وقيل: هو الإزار، وقيل: الخمار. [22]
وعلى كل حال، فإن قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن) لا يستلزم ستر الوجه لغة ولا عرفًا، ولم يرد باستلزامه ذلك دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه. كما قال صاحب "أضواء البيان" رحمه الله.
وبهذا سقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
تفسير ابن مسعود لـ "ما ظهر منها"
ب - ما جاء عن ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) أن ما ظهر منها هو الرداء والثياب الظاهرة.
وهذا التفسير يعارضه ما صح عن غيره من الصحابة: ابن عباس وابن عمر وعائشة وأنس رضي الله عنهم، وعن غيرهم من التابعين: أنه الكحل والخاتم، أو مواضعهما من الوجه والكفين، وقد ذكر ابن حزم أن ثبوت ذلك عن الصحابة في غاية الصحة.
ويؤيد هذا التفسير ما ذكره العلامة أحمد بن أحمد الشنقيطي في (مواهب الجليل من أدلة خليل) قال: (من يتشبث بتفسير ابن مسعود: (إلا ما ظهر منها) يعني الملاءة - يجاب بأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وأنه فسر زينة المرأة بالحلي، قال تعالى: (ولا يضرن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) [23] فتعين حمل زينة المرأة على حليها. [24]
يؤكد ذلك ما ذكرناه من قبل: أن الاستثناء في الآية يفهم منه قصد الرخصة والتيسير، وظهور الثياب الخارجية كالعباءة والملاءة ونحوهما أمر اضطراري لا رخصة فيه ولا تيسير.
آية: "فاسألوهن من وراء حجاب"
ج - ما ذكره صاحب أضواء البيان من الاستدلال بقوله تعالى في نساء النبي: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن). (الأحزاب: 53).
فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) قرينة واضحة على إرادة الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين أن غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن.
ولكن المتأمل في الآية وسياقها، يجد أن "الأطهرية" المذكورة في التعليل ليست من الريبة المحتملة من هؤلاء وأولئك، فإن هذا النوع من الريبة بعيد عن هذا المقام. ولا يتصور من أمهات المؤمنين، ولا ممن يدخل عليهن من الصحابة دخول هذا اللون من الريبة على قلوبهم وقلوبهن، إنما الأطهرية هنا من مجرد التفكير في الزواج الحلال الذي قد يخطر ببال أحد الطرفين، بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما استدلال بعضهم بنفس قوله تعالى: (فاسألوهن من وراء حجاب) فلا وجه له لأنه خاص بنساء النبي كما هو واضح، وقول بعضهم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - لا يرد هنا؛ إذ اللفظ في الآية ليس عامًا. وقياس بعضهم سائر النساء على نساء النبي مردود، لأنه قياس مع الفارق، فإن عليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن، ولهذا قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء. (الأحزاب: 32
حديث: "لا تنتقب المحرمة":
ما رواه أحمد والبخاري عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين" مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللواتي لم يحرمن.
ونحن لا نعارض أن يكون بعض النساء في غير حالة الإحرام، يلبسن النقاب والقفازين اختيارًا منهن، ولكن أين في هذا الدليل على أن هذا كان واجبًا؟؟ بل لو استدل بهذا على العكس لكان معقولاً، فإن محظورات الإحرام أشياء كانت في الأصل مباحة، مثل لبس المخيط والطيب والصيد ونحوها، وليس منها شيء كان واجبًا ثم صار بالإحرام محظورًا.
ولهذا استدل كثير من الفقهاء - كما ذكرنا من قبل - بهذا الحديث نفسه: أن الوجه واليدين ليسا عورة، وإلا لما أوجب كشفهما.
حديث عائشة في سدل الحجاب على وجهها في الحج:
هـ - ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي عن عائشة قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه".
والحديث لا حجة فيه لوجوه:
1ـ أن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وفيه مقال. ولا يحتج في الأحكام بضعيف.
2ـ أن هذا الفعل من عائشة رضي الله عنها لا يدل على والوجوب، فإن فعل الرسول نفسه لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره؟.
3ـ ما عرف في الأصول: أن وقائع الأحوال، إذا تطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، فسقط بها الاستدلال.
والاحتمال يتطرق هنا بأن يكون ذلك حكمًا خاصًا بأمهات المؤمنين من جملة أحكام خاصة بهن، كحرمة نكاحهن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما إلى ذلك. [25]
حديث: "المرأة عورة":
وـ ما رواه الترمذي مرفوعًا: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان" قال الترمذي: حسن صحيح [26]. وأخذ منه بعض الشافعية والحنابلة: أن المرأة كلها عورة ولم يستثنوا منها وجهًا ولا كفًا ولا قدمًا.
والصحيح أن الحديث لا يفيد هذه "الكلية" التي ذكروها، بل يدل على أن الأصل في المرأة هو التصون والستر، لا التكشف والابتذال، ويكفي لإثبات هذا أن يكون معظم بدنها عورة، ولو أخذ الحديث على ظاهره ما جاز كشف شيء منها في الصلاة، ولا في الحج، وهو خلاف الثابت بيقين.
وكيف يتصور أن يكون الوجه والكفان عورة، مع الاتفاق على كشفهما في الصلاة ووجوب كشفهما في الإحرام؟ وهل يعقل أن يأتي الشرع بتجويز كشف العورة في الصلاة، ووجوب كشفها في الإحرام؟.
على أن الحديث ما تفرد به الترمذي عن سائر أصحاب السنن ، ولم يصفه بالصحة بل اكتفى بوصفه بالحسن والغرابة ، وذلك لأن بعض رواته ليسوا في الدرجة العليا من القبول والتوثيق ، بل لا يخلو من كلام في حفظهم [27].
سد الذريعة
زـ وهناك دليل يلجأ إليه دعاة النقاب إذا لم يجدوا الأدلة المحكمة من النصوص، ذلكم هو سد الذريعة . فهذا هو السلاح الذي يشهر إذا فُلَّتْ كل الأسلحة الأخرى.
وسد الذريعة يقصد به منع شيء مباح، خشية أن يوصل إلى الحرام، وهو أمر اختلف فيه الفقهاء ما بين مانع ومجوز، وموسع ومضيق، وأقام ابن القيم في "إعلام الموقعين" تسعة وتسعين دليلاً على مشروعيته.
ولكن من المقرر لدى المحققين من علماء الفقه والأصول: أن المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها، فكما أن المبالغة في فتح الذرائع قد تأتي بمفاسد كثيرة تضر الناس في دينهم ودنياهم، فإن المبالغة في سدها قد تضيع على الناس مصالح كثيرة أيضًا في معاشهم ومعادهم.
وإذا فتح الشارع شيئًا بنصوصه وقواعده، فلا ينبغي لنا أن نسده بآرائنا وتخوفاتنا فنحل بذلك ما حرم الله، أو نشرع ما لم يأذن به الله.
وقد تشدد المسلمون في العصور الماضية تحت عنوان "سد الذريعة إلى الفتنة" فمنعوا المرأة من الذهاب إلى المسجد، وحرموها بذلك خيرًا كثيرًا، ولم يستطع أبواها ولا زوجها أن يعوضها ما يمنحها المسجد من علم ينفعها أو عظة تردعها، وكانت النتيجة أن كان كثير من النساء المسلمات يعشن ويمتن، ولم يركعن لله ركعة واحدة!.
هذا مع أن الحديث الصحيح الصريح يقول: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"! ، "وإذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن" ، "لا تمنعوا النساء النساء من الخروج إلى المساجد بالليل" [28].
وفي وقت من الأوقات دارت معارك جدلية بين بعض المسلمين وبعض حول جواز تعلم المرأة، وذهابها إلى المدارس والجامعات. وكانت حجة المانعين سد الذريعة، فالمرأة المتعلمة أقدر على المغازلة والمشاغلة بالمكاتبة والمراسلة، إلخ، ثم انتهت المعركة بإقرار الجميع بأن تتعلم المرأة كل علم ينفعها، وينفع أسرتها ومجتمعاتها، من علوم الدين أو الدنيا، وأصبح هذا أمرًا سائدًا في جميع بلاد المسلمين، من غير نكير من أحد منهم، إلا ما كان من خروج على آداب الإسلام وأحكامه.
ويكفينا الأحكام والآداب التي قررها الشرع، لتسد الذرائع إلى الفساد والفتن، من فرض اللباس الشرعي، ومنع التبرج، وتحريم الخلوة، وإيجاب الجد والوقار في الكلام والمشي والحركة. مع وجوب غض البصر من المؤمنين والمؤمنات، وفي هذا ما يغنينا عن التفكير في موانع أخرى من عند أنفسنا.
عرف بعض الأقطار الإسلامية بتغطية وجوه النساء:
ح - ومما يستدل به هنا كذلك العرف العام الذي جرى عليه المسلمون عدة قرون، بستر وجوه النساء بالبراقع والنُّقُب وغيرها.
وقد قال بعض الفقهاء:
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار.
وقد نقل النووي وغيره عن إمام الحرمين - في استدلاله على عدم جواز نظر المرأة إلى الرجل - اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات.
ونرد على هذه الدعوى بجملة أمور:
1ـ أن هذا العرف مخالف للعرف الذي ساد في عصر النبوة، وعصر الصحابة وخير القرون، وهم الذين يقتدي بهم فيهتدي.
2ـ أنه لم يكن عرفًا عامًا، بل كان في بعض البلاد دون بعض، وفي المدن دون القرى والريف، كما هو معلوم.
3ـ أن فعل المعصوم وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدل على الوجوب، بل على الجواز والمشروعية فقط، كما هو مقرر في الأصول، فكيف بفعل غيره؟.
ومن هنا لا يدل هذا العرف حتى لو سلمنا أنه عام على أكثر من أنهم استحسنوا ذلك، احتياطًا منهم، ولا يدل على أنهم أوجبوه دينًا.
4ـ أن هذا العرف يخالفه عرف حادث الآن، دعت إليه الحاجة، وأوجبته ظروف العصر، واقتضاه التطور في شئون الحياة ونظم المجتمع، وتغير حال المرأة من الجهل إلى العلم، ومن الهمود إلى الحركة، ومن القعود في البيت إلى العمل في ميادين شتى.وما بني من الأحكام على العرف في مكان ما، وزمان ما يتغير بتغيره.
شبهة أخيرة "فساد العصر:
وأخيرًا نعرض هنا لشبهة ذكرها بعض المتدينين الذين يميلون إلى التضييق على المرأة.
وخلاصتها: أننا نسلم بالأدلة التي أوردتموها بمشروعية كشف المرأة لوجهها كما نسلم بأن المرأة في العصر الأول عصر النبوة والراشدين كانت غير منقبة إلا في أحوال قليلة.
ولكن يجب أن نعلم أن ذلك العصر كان عصرًا مثاليًا، وفيه من النقاء الخلقي، والارتقاء الروحي، ما يؤمن معه أن تسفر المرأة عن وجهها، دون أن يؤذيها أحد. بخلاف عصرنا الذي انتشر فيه الفساد، وعم الانحلال، وأصبحت الفتنة تلاحق الناس في كل مكان فليس أولى من تغطية المرأة وجهها، حتى لا تفترسها الذئاب الجائعة التي تتربص بها في كل طريق.
وردي على هذه الشبهة بأمور:
أولاً: أن العصر الأول وإن كان عصرًا مثاليًا حقًا، ولم تر البشرية مثله في النقاء والارتقاء، لم يكن إلا عصر بشر مهما كانوا، ففيهم ضعف البشر، وأهواء البشر، وأخطاء البشر، ولهذا كان فيهم من زنى، ومن أقيم عليه الحد، ومن ارتكب ما دون الزنى، وكان فيه الفُسَّاق والمُجَّان الذين يؤذون النساء بسلوكهم المنحرف، وقد نزلت آية سورة الأحزاب التي تأمر المؤمنات بإدناء الجلابيب عليهن، حتى يعرفن بأنهن حرائر عفيفات فلا يؤذين: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).
وقد نزلت آيات في سورة الأحزاب تهدد هؤلاء الفسقة والماجنين إذا لم يرتدعوا عن تصرفاتهم الشائنة، فقال تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قيلاً. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً). (الأحزاب: 60، 61).
ثانيًا: أن أدلة الشريعة - إذا ثبت صحتها وصراحتها - لها صفة العموم والخلود، فليست هي أدلة لعصر أو عصرين، ثم يتوقف الاستدلال بها. ولو صح هذا لكانت الشريعة مؤقتة لا دائمة، وهذا ينافي أنها الشريعة الخاتمة.
ثالثا: أننا لو فتحنا هذا الباب، لنسخنا الشريعة بآرائنا، فالمشددون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ميسرة بدعوى الورع والاحتياط، والمتسيبون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ضابطة، بدعوى مواكبة التطور، ونحوها.
والصواب أن الشريعة حاكمة لا محكومة، ومتبوعة لا تابعة، ويجب أن نخضع نحن لحكم الشريعة، لا أن تخضع الشريعة لحكمنا: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن). (المؤمنون: 71).
اعتبارات مرجحة لقول الجمهور:
أعتقد أن الأمر قد اتضح بعد ما ذكرنا أدلة الفريقين، وتبين لنا أن رأي الجمهور أرجح دليلاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً.
ولكني أضيف هنا اعتبارات ترجيحية أخرى، تزيد رأي الجمهور قوة، وتريح ضمير كل مسلمة ملتزمة تأخذ به بلا حرج إن شاء الله.
لا تكليف ولا تحريم إلا بنص صحيح صريح
أولاً: إن الأصل براءة الذمم من التكاليف، ولا تكليف إلا بنص ملزم، لذا كان موضوع الإيجاب والتحريم في الدين مما يجب أن يشدد فيه، ولا يتساهل في شأنه، حتى لا نلزم الناس بما لم يلزمهم الله به، أو نحرم عليهم ما أحل الله لهم، أو نحل لهم ما حرم الله عليهم، أو نشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى.
ولهذا كان أئمة السلف يتورعون من إطلاق كلمة حرام إلا فيما علم تحريمه جزمًا كما نقل ذلك الإمام ابن تيمية، وذكرته في كتابي "الحلال والحرام في الإسلام".
والأصل في الأشياء والتصرفات العادية هو الإباحة، فما لم يوجد نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة على التحريم، يبقى الأمر على أصل الإباحة، ولا يطالب المبيح بدليل، لأن ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته، إنما المُطالب بالدليل هو المحرم.
وفي موضوع كشف الوجه والكفين لا أرى نصًا صحيحًا صريحًا يدل على تحريم ذلك، ولو أراد الله تعالى أن يحرمه لحرمه بنص بين يقطع كل ريب، وقد قال سبحانه: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) (الأنعام: 119)، ولم نجد هذا فيما فصله لنا جَلَّ شأنه، فليس لنا أن نشدد فيما يسر الله فيه، حتى لا يقال لنا ما قيل لقوم حرموا الحلال في المطعومات: (قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون). (يونس: 59).